الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الهوامل والشوامل***
وإن كان المعنى الأول أكثر فإن الثاني أبين وأظهر. وأي المعنيين أجل: الجزع منه أم الاسترسال إليه فإن الكلام في هذه الفصول كثير الريع جم الفوائد. الجواب: قال أبو على مسكويه - رحمه الله: الجزع من الموت على ضروب وكذلك الاسترسال إليه. وبعضه محمود وبعضه مذموم وذلك أن من الحياة ما هو جيد محبوب ومنها ما هو ردىء مكروه فيجب من ذلك أن يكون ضدها الذي هو الموت بحسبه: منه ما هو حيال الحياة الجيدة ولا بد من تبيين هذه الأقسام ليبين سبب الجزع والاسترسال وأيهما أعلى فأقول: إن الحياة المقترنة بالآفات العظيمة والمهن الهائلة والآلام الشديدة: مثل أن يسبي الرجل وأهله وولده ويملكهم قوم أشرار حتى يرى في أهله وولده ما لا طاقة له به ويسام في نفسه وجسمه ما لا صبر عليه ويقع في الأمراض الشديدة التي لا برء منها ويضطر إلى فعل قبيح بأصدقائه وبوالديه فهذا كله ردىء مكروه وليس أحد يختار العيش فيه ولا يؤثر الحياة معه فضده إذا جيد محبوب لأن الموت أمام هذه المحن في مجاهدة عدو يسوم هذا السوم - موت مختار جيد. فيجب بحسب هذا النظر أن نقول: إن تلك الحياة المكروهة يستحب فيها الموت الذي هي ضده فالاسترسال إلى هذا الموت جيد وسببه ظاهر. وكذلك إذا عكست الحال فإن الحياة المحبوبة والعيش المضبوط التي معها صحة البدن واعتدال المزاج ووجود الكفاية من الوجوه الجميلة والتمكن بهذه الأشياء من السعي نحو السعادة القصوى وتحصيل الصورة المكملة للإنسان مع مساعدة الإخوان الفضلاء وقرة العين بالأولاد النجباء والعز بالعشيرة وأهل بيت الصالحين - كله محبوب مؤثر جيد. ومقابله إذن الذي هو الموت ردىء مكروه لأن الموت ينقطع به استكمال السعادة وإتمام الفضيلة ويفوته أمراً عظيماً كان معرضاً له. وهذا ضرب من النظر وباب من الاعتبار. وضرب آخر وهو أن البقاء بنفسه أمر مختار لأنه وجود متصل والوجود كريم شريف. وضده العدم رذل خسيس والرغبة في الشيء الكريم واجبة كما أن الزهد في الشيء الخسيس واجب. وإذا كانت حياة ما منقطعة لا محالة ثم كان ذلك يفضي إلى حياة أخرى أبدية ووجود سرمدي - صار هذا الموت غير مكروه إلا بقدر ما يكره من الدواء المر إذا أدى إلى الصحة فإن العلاج المؤلم والدواء الكريه مختاران إذا أديا إلى صحة طويلة وسلامة متصلة. فإن لم يكونا مختارين بالذات فهما مختاران بالعرض. فالإنسان المستبصر الذي يرى أن أخراه أفضل من دنياه وآجله خير له من عاجله - يسترسل إلى الموت استرساله إلى الدواء الكريه والعلاج المؤلم ليفضي به إلى خير دائم وإن كان هذا الأختيار بالعرض لا بالذات وربما ظن ذلك ظناً فحسن أيضاً منه الاسترسال إليه بحسب قوة ظنه وما وقع إقناعه به كما يحسن في الدواء إذا قوى ظنه بمعرفة واصفه له. فأما من خلا من هذا الاعتقاد والظن القوي فهو يجزع من الموت لأنه عدم ما والعدم مهروب منه وهذا سبب صحيح وعلة ظاهرة. وهذا ضرب آخر من الاسترسال إلى الموت والجزع منه وهو أن من قوى ظنه واستحكمت بصيرته في عاقبته ومعاده ولكنه لم يقدم ما يعتقد أنه يسعد به ولم يتأهب بأهبته ولا استعد له عدة فهو يكره الموت ويجزع منه ولا يسترسل إليه. وبالضد من راى أنه مستعد لعدته آخذ أهبته فهو حريص عليه مسترسل إليه. وأنت ترى ذلك في أصحاب الأهواء المختلفة والديانات المتضادة كالهند في تسرعهم إلى إحراق نفوسهم وإقدامهم على ضروب المثل والقتل في أبدانهم وكالخوارج في حرصهم على الموت وبذلهم نفوسهم في مواقفهم المشهورة وحروبهم المأثورة وأن الرجل إذا طعن قنع فرسه ليسبح في الرمح وينتهي إلى طاعنه ثم قرأ: والصابرون على أنواع العذاب وضروب المثل والقتل من أهل الأهواء - أكثر من أن يحصوا. وإنما ذكرنا سبب الجزع من الموت والاسترسال إلى الموت وأيهما يحسن وفي أي موضع وعلى أي حال. ولم كانت الفسولة في السمان أكثر الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة كأنها عن الحال الأغلب والوجود الأكثر. والسبب فيه أنه لما كانت الحرارة الغريزية سبب الحياة وسبب الفضائل التابعة للحياة أعنى الذكاء والحركة والشجاعة وما أشبهها - كانت الأبدان التي حظها منها أكثر - أفضل. والحكم الصحيح في هذا أن الأبدان المعتدلة في النحافة والسمن والطول والقصر وسائر الكيفيات الأخر - أفضل الأبدان. ولما كانت مسألتك مخصوصة بالنحافة والسمن خصصنا الجواب أيضاً فنقول: إن الحرارة إذا قاومت أخلاط البدن فأذابت فضول الرطوبات منه ونفت البرد الغالب عليه هو ضده - كان ذلك سبباً للحركة واليقظة وسبباً للإقدام والنجدة. ويتبع هذه الأشياء سائر الفضائل اللازمة لها وذكو الحرارة التي في القلب وهي أول هذه الفضائل كلها. وإذا غلبت الرطوبات عليها أطفأتها وغمرتها وحالت بينها وبين أفعالها وعاقتها عنها فكان والنحافة والسمن وإن كانا جميعاً قد خرجا عن الإعتدال فأحدهما وهو النحافة خروجه عن الاعتدال بإفراط الحرارة التي هي سبب الفضائل وهي أولى بها من اطرف الأخر الذي ضدها اعني السمن الذي هو خروج عن الاعتدال إلى جانب البرد وعدم الحرارة المؤدي إلى بطلانها وزوالها. وقد تبين في كتاب الأخلاق أن أطراف الفضائل كلها مذمومة ولكن بعضها أقرب إلى المدح. وإن كان البعد من الوسط فيهما واحداً كان الاعتدال الممدوح بالجود والسخاء له طرفان أحدهما البخل والآخر التبذير وهما جميعاً مذمومان وخارجان من الاعتدال إلا أن أحد الطرفين وهو التبذير أشبه بالجود من الطرف الآخر لأن أحد الطرفين بالإمعان يتأدى إلى بطلان الشيء الممدوح وعدمه والآخر يتأدى إلى الزيادة فيه بالإفراط. ولعمري إنهما في فقد الاعتدال سواء ولكن أحدهما أشبه به من الآخر. وهذا هو موضع لا يدفع ولا ينكر.
الجواب: قال أبو على مسكويه - رحمه الله: هذا أيضاً طرفان لموضع الفضيلة وذلك أن الاعتدال من الطول والقصر هو المحمود ولكن الطول بالتفاوت في الخلق أقرب إلى الذم وذلك لبعد الأعضاء الرئيسية بعضها من بعض لا سيما العضوان اللذان هما أظهر الأعضاء رياسة أعني القلب والدماغ فإن هذين يجب أن يكون بينهما مسافة معتدلة لتتمكن الحرارة التي في القلب من تعديل برودة الدماغ وحفظ اعتداله وبقاء الروح النفساني الذي يتهذب في بطون الدماغ وتتمكن أيضاً برودة الدماغ من تعديل حرارة القلب وحفظ اعتداله عليه. وهذا الاعتدال إذا بعد أحد العضوين من الآخر تفاوت واضطرب نظامه وفسد التركيب وفسدت الأفعال الصادرة عن الإنسان ونقصت فضائله. وليس يعرض في قرب التفاوت ما يعرض في بعد أحدهما من الآخر.
الجواب: قال أبو علي بن مسكويه - رحمه الله: غلاض الرجلين أعني الناقص من مدة عمره والزائد فيها - غرض واحد وإن اختلفا في الخبر. وربما فعل الرجل الواحد ذلك بحسب زمانين مختلفين أو بحسب حالين في زمان واحد. وسبب هذا الفعل محبة النفس وذاك أن الإنسان يحب أن يعتقد فيه من الفضل أكثر مما هو ويحب أن يعذر في نقص إن وجد فيه. وهو إذا كان حدثاً وظهرت منه فضيلة أو نقيصة نقص من زمان عمره ليعلم غيره أن الفضيلة حصلت له في زمان قصير وأن ذلك لم يكن ليتم له إلا بعناية كثيرة وحرض شديد ونفس كريمة وانصراف عن الشهوات الغالبة على أقرانه وترك اللعب الذي هو يستولى على لداته وكلما كان الزمان أقصر كان إلى الفضيلة أقرب وكان التعجب منه أكثر. وإن كانت منه نقيصه عذر في فعله بقلة الحنكة والدربة وانتظر فلاحه ورجى تلافيه وإنابته. وإن الإنسان مرشح طول عمره لاقتناء الفضائل والاستكثار من المعارف ويجب أن يكون أبداً بحال من الفضل يستكثر في مثل سنه أن يبلغ إليها أو يعجب من كثرة تدربه بالزمان القصير في الأمور التي يحتاج فيها إلى الزمان الطويل. وأيضاً فإن المكتهل وذا السن الكثير التجربة ممن صحب الزمان ولقى الرجال وتصرف في العلوم - مهيب في النفوس جليل في الصدور موقر في المجالس مستشار في النوائب مرجوع إليه في الرأي. وهذه حال مرغوب فيها فإذا بلغ الإنسان من السن ما يحتمل أن يدعي فيه هذه الدعوى أو فكل واحد من الرجلين أو الرجل الواحد في الزمانين أو الحالتين غايته في التكذب بما ينقص من عمره التمويه بالفضل وادعاء رتبة ليست له. وهذا شر ظاهر فمتعاطيه شرير وأفاضل الناس لا يعتريهم هذا الشر لأنهم لا يتدنسون بالكذب ولا يتكثرون بالباطل. وقيل للروذكي - وكان أكمه وهو الذي ولد اعمى - كيف اللون عندك قال: مثل الجمل. الجواب: قال أبو على مسكويه - رحمه الله: أما محبة الإنسان شهراً بعينه فلأجل ما يتفق له فيه من شعادة ما بحصول مأمول أو ظفر بمطلوب أو انتظار مرجو في وقت بعينه أو سرور بعقب غم أو راحة بعد تعب وربما استمر ذلك به وتكرر عليه مدة من عمره في وقت بعينه فأنس به وألفه وأحبه لما يتفق له فيه ولذلك أحب صبيان المسلمين يوم الجمعة وألفوه بعد ذلك طول عمرهم وكرهوا يوم السبت لأن يوم الجمعة مفروض لهم فيه الراحة مرخص لهم اللعب ويتلوه يوم السبت الذي هو يوم تعبهم وعودهم إلى ما يكرهون من فقد اللعب. فأما صبيان اليهود فإنما يعرض لهم ذلك في يوم السبت وما يليه وصبيان النصارى في يوم الأحد وما يليه وكذلك أيام الأعياد التي أطلق للناس فيها الراحة والزينة يقول النبي صلى الله عليه وسلم (أيام أكل وشرب وبعال) وهذه الأيام مختلفة في أصحاب الملل. وكل قوم يحبون الأيام التي هي أعيادهم التي أطلق لهم فيها الزينة والمتعة والراحة. وأما من تساوت به الأحوال من الأمم التي ليست تحت شرع ولا لهم نظام في سيرتهم وأحوالهم كالزنج وأواخر الترك وأشباههم فليس يلحقهم هذا المعنى وليس يحبون يوماً بعينه ولا شهراً ولا وقتاً مخصوصاً. فأما تولد صورة يوم الجمعة على خلاف صورة يوم الخميس فإنه على ما أقول: إن الزمان الأظهر الأعم الأشهر هو ما تحدثه دورة واحدة من الفلك الأقصى أعني الذي يدبر جميع الأفلاك ويحركها بحركة نفسه إلى غير جهة حركاتها وذلك من المشرق إلى المغرب من مفروضه إلى أن يعود إليها وهو في أربع وعشرين ساعة. وإنما صار هذا الزمان أظهر للناس لما يظهر فيه من صباح يعرض ومساء بيوم وليلة وسببهما ظهور الشمس في بعض هذه المدة فوق الأرض وغيبتها في بعض تحت الأرض. وفي كل دور منها للناس أفعال وحركات ومواليد ومعاملات ليست في الدورة الأخرى. ويتعلق بأفعالهم هذه أحكام وأقضية في مدد معلومة وآجال مفروضة في مدة مضروبة يحتاجون فيها إلى نسبتها إلى دورة بعد دورة من الفلك الأقصى التي هي سبب لكون اليوم والليلة لتصح معاملاتهم وتصدق قضاياهم وتتعين آجالهم المضروبة في أعمالهم ومعاملاتهم. وههنا زمان آخر تحدثه دورة أخرى تختص بها الشمس في سيرها. وذلك أن تبتدىء الشمس من نقطة مفروضة وتعود إليها بعينها بحركة نفسها دون تحريك المحرك الأول. وهذه الدورة هي من المغرب إلى المشرق بخلاف تلك. وتتم الدورة الواحدة من هذه الحركة التي تخص الشمس في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم على التقريب. وهذا هو زمان أيضاً ولكنه منسوب إلى حركة الشمس نفسها ويسمى: سنة. وههنا زمان آخر قد تعارفه الناس أيضاً واشتهر بينهم وظهوره وإن لم يكن كظهور الشمس فهو تال له وهو ما يكون ويحدث بدورة واحدة من حركة القمر التي تخصه دون تحريك المحرك الأول. وتتم الدورة الواحدة بهذه الحركة التي تخص القمر وهي أيضاً من المغرب إلى المشرق في ثمانية وعشرين يوماً ويسمى شهراً. فهذه الأزمنة الثلاثة لما كانت ظاهرة مكشوفة تراها العيون لأجل تعلقها بالشمس والقمر اللذين هما أنور الكواكب وأبينها وأكبرها في الظاهر - تعارفها الناس وتعاملوا عليها وحدثت صورة لكل دورة بحسب ما يقسطه الناس في أعمالهم وبحسب ما يفشو فيها ويحدث من الأعمار والمواليد وبحسب نسبة حركاتهم إليها بمبدأ ومنتهى. وإذا نظر الإنسان إلى هذه الأدوار في أنفسها خالية من حركات الناس وأفعالهم ولم ينسب إليها حركة أخرى وفعلاً آخر - لم يكن بينها فرق بتة إلا بالتكرر الذي لا بد فيه من العدد بالأول والثاني والثالث وإلى حيث انتهى الإحصاء. فإن نظر فيها بحسب الأحوال ونسب إليها أفعالاً وآثاراً ونظمها بالحساب - حدثت صور مختلفة بحسب اختلاف الأمور الواقعة فيها المنسوبة إليها. فأما الأكمه الذي ذكرته في المسألة فإن الفاقد حاسة من حواسه لا يتصور شيئاً من محسوساته لأن التصور في النفس من كل محسوس إنما يقع بعد الإحساس به. وذلك أن هذه القوى من قوى النفس التي تأخذ العلوم من الحواس إنما ترقيها إلى قوة التخيل عن فأما إذا فقد الحس فكيف يترقى المحسوس إلى قوة التخيل فبحق صار الأكمه لا يتخيل شيئاً من الألوان ولا يتصوره. وكذلك إن فقد فاقد حس الشم والسمع من مبدأ ولادته لم يتخيل شيئاً من محسوساتهما لما قدمناه. وحدثني بعض أهل التحصيل من المتفلسفين أنه سأل رجلاً أكمه: كيف يتصور البياض فقال: حلو. فكأنه لما لم يجد صورة البياض في تخيله ردها إلى حاسة أخرى هو واجد لمحسوسها فسماها بها وظنها إياها.
ما معنى قول الشاعر: - والظلم في خلق النفوس فإن تجد ذا عفه فلعلة لا يظلم. وما حد الظلم أولاً فإن المتكلمين ينفكون في هذه المواضيع كثيراً ولا ينصفون شيئاً وكأنهم في الغضب والخصام. وسمعت فلاناً في وزارته يقول: أنا أتلذذ بالظلم فما هو هذا ومن أين منشؤه أعني الظلم أهو من فعل الإنسان أم هو من آثار الطبيعة. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الظلم انحراف العدل. ولما احتيج في فهمه إلى فهم العدل أفردنا له كلاماً ستقف عليه ملخصاً مشروحاً. وهو في معنى الجور الذي هو مصدر جار يجور إلا أن الجور يستعمل في الطريق وغيره إذا عدل فيه عن السمت والظلم أخص بمقابلة العدل الذي يكون في المعاملات فالعدل من الاعتدال وهو التقسيط بالسوية وهذه السوية من المساواة بين الأشياء الكثيرة والمساواة هي التي توجد الكثرة وتعطيها الوجود وتحفظ عليها النظام. وبالعدل والمساواة تشيع المحبة بين الناس وتأتلف نياتهم وتعمر مدنهم وتتم معاملتهم وتقوم سننهم. ولشرح هذا الكلام وتحقيق مائية القول في العدل وذكر أقسامه وخصائصه - بسط كثير لم آمن طوله عليك وخروجي فيه عن الشريطة التي اشترطتها في أول الرسالة من الإيجاز ولذلك أفردت فيه رسالة ستأتيك مقترنة بهذه المسألة على ما يشفيك بمعونة الله. ولو أصبنا فيه كلاماً مستوفى لحكيم مشهور أو كتاباً مؤلفاً مشروحاً - لأرشدنا إليه على عادتنا واحلنا عليه كرسمنا ولكنا لم نعرف فيه إلا رسالة لجالينوس مستخرجة من كلام أفلاطون وليست كفاية في هذا المعنى وإنما هي حض على العدل وتبيين لفضله وأنه أمر مؤثر محبوب لنفسه. وإذا عرفت العدل من تلك الرسالة عرفت منه ما عدل عنه ولم يقصد سمته. وكما أن إصابة السهم من الغرض إنما هو نقطة منه فأما الخطأ والعدول عنها فكثير بلا نهاية - فكذلك العدل لما كان كالنقطة بين الأمور تقسمها بالسوية كانت جهات العدول عنها كثيرة بلا نهاية. وعلى حسب القرب والبعد يكون ظهور القبح وشناعة الظلم. فأما قول الشاعر: والظلم في خلق النفوس فمعنى شعري لا يحتمل من النقد إلا قدر ما يليق بصناعة الشعر. ولو حملنا معاني الشعر على تصحيح الفلسفة وتنقيح المنطق لقل سيمه وانتهك حريمه وكنا مع ذلك ظالمين له بأكثر مما ظلم الشاعر النفوس التي زعم أن الظلم في خلقها. على أنا لو ذهبنا نحتج له ونخرج تأويله لوجدنا مذهباً وأصبنا مسلكاً ولكن هذه الأجوبة مبينة على تحقيقات مغالطة الشعراء ومذاهبهم وعاداتهم في صناعتهم. ثم أقول: إن الظلم الذي ذكرنا حقيقته يجري مجرى غيره من سائر الأفعال فإن صدر عن هيئة نفسانية من غير فكر ولا روية سمى خلقاً وكان صاحبه ظلوماً. وهذه سبيل غيره من الأفعال المنسوبة إلى الخلق لأنها صادرة عن هيئات وملكات من غير روية. فأما إذا ظهر الفعل بعد فكر وروية فليس عن خلق مذموماً كان أو معلوماً وإذا لم يكن عن خلق فكيف يكون عن خلق. وإنما يستمر الفاعل على فعل ما بروية منه فتحدث من تلك الروية الدائمة هيئة تصدر عنها الأفعال من بعد بلا روية فتسمى تلك الهيئة خلقاً. فأما الشيء الصادر عن هذه الهيئة فإنه إن كان عملاً باقي الهيئة والأثر سمى صناعة واشتق من ذلك العمل اسم يدل على الملكة التي صدر عنها كالنجار والحداد والصائغ والكاتب فإن هذه الأعمال إذا صدرت من أصحابها بلا روية سموا بهذه الأشياء ووصفوا بهذه الصفات. فأما إن تكلف إنسان استعمال آلة النجارة والحدادة والكتابة والصياغة فأظهر فعلاً يسيراً بروية وفكر فعلى سبيل حكاية وتكلف فإن أحداً لا يسمى هذا نجاراً ولا كاتباً ولذلك لم والصناعة كلها تجري هذا المجرى فهذه الأعمال كما نراها والأفعال أيضاً التي لا تبقي آثارها - جارية هذا المجرى. وعلى هذه السبيل جرت أمور الأخلاق والأفعال الصادرة عنها لأن الأخلاق هيئات للنفوس تصدر عنها أفعالها بلا روية ولا فكر. فأما الوزير الذي سمعته يقول: أنا أتلذذ بالظلم فإن الإختيارات المذمومة كلها إذا صار منها هيئات وملكات صارت شروراً وسمي أصحابها: أشراراً. وليس يختص الظلم في استحقاق اسم الشر وخروجه عن الوسائط التي هي فضائل النفس - بشيء دون أمثاله ونظائره. وفقد هذه الوسائط هو شرور ورذائل تلحق النفوس كالشره والبخل والجبن سوى أن الظلم اختص بالمعاملة وترك به طلب الاعتذار والمساواة. وهذه النسبة العادلة والمساواة في المعاملة - قد بينها أرسططاليس في كتاب الأخلاق وأن المعاملة هي نسبة بين البائع والمشتري والمبيع والمشتري وأن نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع على التكافؤ وفي النسبة والتبديل فيها وعلى ما هو مشروح مبين في غيره من الكتب. فأما قولهم: لا يزال الناس بخبر ما تفاوتوا فإذا تساووا هلكوا فإنهم لم يذهبوا فيه إلى التفاوت في العدل الذي يساوي بينهم في التعايش وإنما ذهبوا فيه إلى الأمور التي يتم بها التمدن والاجتماع. والتفاوت بالآحاد ههنا هو النظام للكل. وقيل: إن الإنسان مدني بالطبع فإذا تساوى الناس في الاستغناء هلكت المدنية وبطل الاجتماع. وقد تبين أن اختلاف الناس في الأعمال وانفراد كل واحد منهم بعمل هو الذي يحدث نظام الكل ويتم المدنية ومثال ذلك الكتابة التي كليتها تتم باختلاف الحروف في هيئاتها وأشكالها وأوضاع بعضها عند بعض فإن هذا الاختلاف هو الذي يقوم ذات الكتابة التي هي كلية ولو استوت الحروف لبطلت الكتابة.
ألم تكن المشاكلة مطلوبة في كل موضع وعلى ذكر المشاكلة وما المشاكلة والموافقة والمضارعة والمماثلة والمعادلة والمناسبة وإذا وضح الكلام في هذه الألفاظ وضح الحق أيضاً الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذا فعل عامي يذهب إلى صرف العين. وعند القوم أن الشيء إذا كمل من جهاته أسرعت العين إليه بالإصابة فإذا كان منه شيء منتقص أو ظاهر فيه عيب شغلت العين به عن الإصابة. وكان ينبغي ألا تختلط هذه المسائل هذا الاختلاط فإني أرى المسألة الشريفة الصعبة إلى جانب الأخرى التي لا نسبة بينهما قلة وسهولة. وليس للمجيب أن يقترح السؤال وينظم الشكوك ولأجل هذا اضطرت إلى الكلام في جميعها على حسب مراتبها. ولم أقل ذلك إبطالاً للعين وأفعالها ولا زراية على الأصول التي بنت العامة عليها ولكن المسألة توجهت عن فعل عامي وإن كان له أصل بعيد ورجع إلى أول وأسند إلى حقيقة. فأما المسألة عن المشاكلة والموافقة فإن الشكل المثل وهي مفاعلة منه ولا فرق بينها وبين المماثلة على ما ذكره اللغويون. وأنا أظن المثل أعم من الشكل لأن شكل مثل وليس كل مثل شكلاً. فأما الموافقة فمن الوفق في المسألة التالية لهذه المسألة ونحن نشرحه هناك مع ذكر البخت والجد. فأما المعادلة والمناسبة فقد مر ذكرها مستقصى في مسألة العدل. والعدل لما كان يماثل عدله بالموازنة صار قريب المعنى منه والمعادلة هي مفاعلة منه. وقلت في آخر المسألة: إنه إذا وضحت لك هذه الألفاظ وضح بها ما بعدها. فلذلك أمسكت عنها.
حتى لم يكن لها دواء لشدة الحسد وفرط الضغائن وحتى زالت بها نعم وبادت نفوس وانتهى إلى الجلاء والهلاك وهل كان الجوار وما يتعوذ بالله منه في شكل هذه العداوة أم لا الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تقدم في مسألة حد الحسد وفي المعاني القريبة التي يغلط الناس فيها وفي ذكر أسمائها ما فيه غنى عن إعادته في جواب هذه المسألة لأنا ذكرنا هناك أن الاثنين أو الجماعة من الناس إذا اشتركوا في أمر وجمعهم سبب فتساووا فيه مع تساويهم في الإنسانية ثم تفرد من بينهم واحد بفضيلة - حسده نظيره أو غبطه. وذوو الأرحام هم جماعة يشتركون في نسب واحد ولا يرى أحدهم للآخر فضلاً فإن انفرد وأيضاً فإن موضوع الشركة في النسب هو المؤازرة والمعاونة والتساوي في الأحوال. وهذه حال منتظرة يتوقعها كل واحد من الآخر فإذا أخلف الظن كان أشد احتمالاً وأصعب علاجاً وصار بمنزلة الدين المجحود والحق المغموط فإذا اقتضى ثقل وإذا ثقل تنوكر وإذا تنوكر ثارت قوة الغضب بالجميع والغضب يزرع الحقد ويبعث على الشرور. وينضاف إلى هذا شدة العناية والتفقد للأحوال وهذا لا يكون مع البعداء ولا يمكن فيهم فتكثر وجوه المطالبات بالحقوق وادعاؤها وإن لم تكن وتثور أسباب الغضب والغضب يرى أكثر مما تريه الحال نفسها ويطلب كل واحد من صاحبه وينتظر مثل ما يطلبه صاحبه وينتظره وينتهي من العدد وكثرة الوجوه إلى حيث يتعذر دواؤه ويقع الإياس منه. والجوار أيضاً سبب قوى لأنه شركة ما تبعث على تفقد الأحوال وتلقح الحسد وجميع الأحوال التي ذكرناها في ذوي الأرحام إلا أن هناك عطفاً مرجواً وإبقاء معلوماً لا يوجد مثلهما في الجوار فالشر إذا ثار منه صرف والحسد فيه محض لا مزاج للخير فيه ولا داعي إلى البقيا معه.
وما سبب غضبه من شر ينسب إليه وليس هو فيه والصدق في الأول من باب المحبوب المحمود والكذب في الثاني من باب المذموم المكروه الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب ذلك محبة النفس وقد تقدم شرحه. والإنسان إذا ذكر بشر هو فيه كره أن يفطن له وإن فطن له أن يجبه أو يغتاب به لأنه يعرف قبح الشر ويحب لنفسه التي هي حبيبته أن تكون بريئة من كل عيب بعيدة من كل ذنب وذم فإذا رميت بشر لحقه غم أولاً ثم محبة الانتقام ممن غمه. والغضب حقيقته حركة النفس للانتقام وهذه الحركة تثير دم القلب حتى يغلي ولذلك يحد الغضب بأنه غليان دم القلب شهوة الانتقام. فأما غضب الإنسان من شر ينسب إليه وليس هو فيه فبالواجب لأنه قصد بالظلم ليغم. وفائدة الغضب وسبب وجوده في الإنسان هو أن ينتصر به من الظالم أو يمنعه ويضعه عن نفسه فإذا علم الإنسان أن قاصداً يقصده بالظلم أحب الانتقام منه وتحركت نفسه لذلك فحدث الغضب. فقد استبان من الصدق والكذب جميعاً في هذه المسألة سبب هيج الغضب ومائيته أيضاً. وهو لا يتوقع فيه هذا كثير معهود وإن لم يكن من باب المعتاد المألوف ولو كان من ذلك لسقط التعجب وزال الإكبار ووقع الإشتراك. ومن هذا الضرب رؤية الإنسان بالالتفات من لم يكن يظن أنه يراه. وكذلك تشبيهك بعض من يلحقه طرفك بمعهود لك حتى إذا حدقت نحوه لم يكن ذاك ثم إنك لا تلبث حتى تصادف المشبه به. وهل هذا كله بالاتفاق وإن كان بالاتفاق فما الاتفاق وهل الاتفاق هو الوفاق وما الوفاق حتى يكون البيان عنه بياناً عن الأول أو مطلعاً عليه أو مقرباً إليه. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس علامة بالذات دراكه للأمور بلا زمان وذاك أنها فوق الطبيعة والزمان إنما هو تابع للحركة الطبيعية وكأنه إشارة إلى امتدادها ولذلك اشتق اسم المدة منه لأن المدة فعلة والامتداد افتعال وأصلهما واحد من المد. ولما كانت النفس فوق الطبيعة وكانت أفعالها فوق الحركة أعني في غير زمان فإذن ملاحظتها الأمور ليست بسبب الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل بل الأمر عندها في السواء فمتى لم تعقها عوائق الهيولى والهيوليات وحجب الحس والمحسوسات - أدركت الأمور وتجلت لها بلا زمان وربما ظهر هذا الأمر منها في بعض المزاجات أكثر حتى يرتفع إلى حد التكهن وهذا الإنذار ربما كان في زمان بعيد فكلما كان أبعد والمدة أطول كان أبدع عند الناس وأغرب ثم لا يزال يقرب الزمان ويقصر فيه حتى يتلو وقت الإنذار بلا كبير فاصلة. وهذه الحال تعرض لمن يذكر الإنسان فيحصر المذكور عند مقطع ذكره ولم يكن سبباً لحضوره بل كان الأمر بالضد فإن قرب حضوره أشعر النفس حتى أنذرت به. وكذلك الحال في الرؤية بالالتفات فإن قرب الملتفت إليه هو الذي حرك النفس حتى استعملت آلة الالتفاف. واستقصاء هذا غير لائق بشرطنا في ترك الإطالة ولولا ذلك لذكرنا أموراً بديعة من هذا الجنس وفي هذا القدر كفاية وبلاغ فيما سألت عنه. فأما مسألتك عن الاتفاق وهل هو الوفاق وما الوفاق فقد وعدنا بالكلام فيه في مسألة تجيء بعد هذه. ولعمري إن الاتفاق هو الوفاق لأنه افتعال منه والأصل واحد والاشتقاق دال عليه. وسنحبر عنه إخباراً كافياً عند ذكر البخت والجد إن شاء الله.
وهي أسماء طابقت أغراضها لكنها خفية الأصول جلية المعاني وهي: ما القوة والقدرة والاستطاعة والطاقة فهي القوة بالمحمول عليها والشجاعة والنجدة والبطولة والمعونة والتوفيق واللطف والمصلحة والتمكن والخذلان والنصرة والولاية والملك والملك والرزق والدولة والجد والحظ. ولم أذكر البخت فإنه ليس من كلام العرب ومعناه قد التبس ببعض هذه الأِشياء وكذلك المبخوت. فأما المجدود والمحدود والمحظوظ والحظى والجدى فكل ذلك مراد به معنى ومرمى به غاية ولكن البيان عنها عزيز والتحقيق فيها شديد. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: وجدت في هذه المسائل مع اختلافها ما يتقارب وما يتباعد في المعاني فألفت الشكل إلى شكله ولم أراع تأليفها ونظمها. أما القوة فاسم مشترك يقال على القوة التي هي في مقابلة الفعل. وهذا اسم خاص يستعمله الحكماء حسب ولا يعرفه الجمهور ومعناه أنه الشيء الممكن أن يظهر فيصير موجوداً بالفعل فيقال: الجرو مبصر بالقوة والإنسان كاتب بالقوة وإن لم يكن في ويقال على القوة التي يشار بها إلى معان موجودة للنفس كقوة الإبصار والإدراك والفكر والتمييز والغضب وما أشبهها. ويقال على المعنى الذي في الحديد وأشباهه من الصلابة والامتناع على التثنى والكسر. ويقال أيضاً على البطش والجلد الذي يختص الحيوان وأظنك إياها عنيت بالمسألة لأنها ذكرت مع الطاقة والقدرة. وقد أصبت حداً يعم أكثر هذه الأسماء ويخص مسألتك وهو أن القوة حال لذي القوة تظهر عند ما هي قوة عليه. فأما شرح هذا الحد بحسب ما يختص الحيوان فهو اعتدال في الأعصاب بين الرطوبة واليبوسة وذلك أن العصب إذا أفرط في الرطوبة استرخى عند العمل فسمى مستعمله ضعيفاً وإذا أفرط في اليبوسة انبتر وانقطع أو خشى عليه ذلك وألم عند العمل فكان مستعمله أيضاً ضعيفاً. وليس يطلق اسم القوة إلا بالإضافة وعلى حسب موضوع ذي القوة فقد يقال: رجل قوى وجمل ضعيف كما يقال: نملة قوية وفيل ضعيف. فأما الطاقة فهي وفاء القوة بالمحمول عليها وهي مستعملة في الحيوان وفي قوته خاصة وفي وقد تستعمل أيضاً في الأثقال النفسانية تشبيهاً واستعارة فيقال: فلان يطيق حمل مائة منا أى قوته وفاء بهذا الثقل إذا حمله ويقال: فلان يطيق الكلام ولا يطيق النظر ولا الغم والسرور. فإن استعمل في غير الحيوان فعلى المجاز البعيد. فأما القدرة فهي تمكن من إظهار هذه القوة عند الإرادة ولذلك تختص بالحيوان ولا تستعمل في غيره ألبته لما حددناه به. وأما الاستطاعة فهي استفعال من الطاعة أي استدعاؤها هذا بحسب الاشتقاق ودليل اللغة. فأما على الحقيقة فهي كلمة مستعارة وذلك أنك لا تستدعي طاعة شيء لك إلا وأنت تستحقها منه بالقدرة عليه. وتلخيص هذا الكلام أنك إذا قلت: استطعت كذا وأنا أستطيع الأمر أي إذا استدعيت طاعته أجابني. وهي توول إلى معنى القدرة وإن كانت أقدم منها بالذات وكان بينهما فرق من هذا الوجه لأن النفس هي التي تستدعي طاعة الشيء بالقدرة عليه وتحكم بإجابته لها. وهذه المعاني مضمنة لفظة الاستطاعة واشتقاق الاسم دال عليه فتأمله تجده واضحاً إن فأما الشجاعة فهي استعمال قوة العصب بقدر ما ينبغي وفي الوقت الذي ينبغي وفيما ينبغي وعلى الحال التي تنبغي. وهي خلق يصدر عنه هذا الفعل على ما يحده العقل وهي حال واسطة بين طرفين مذمومين: أحدهما زيادة بالإفراطن والأخرى زيادة بالتفريط. فأما من جانب الزيادة فأن تستعمل بأكثر مما ينبغي في سائر شرائطها فتسمى تهوراً. وأما من جانب النقصان فأن تستعمل بأقل مما ينبغي في سائر شرائطها فتسمى جنباً. والشجاعة لفظة مدح كالجود والعفة وما جرى مجراهما. وأول ما يظهر منها أثرها في الإنسان نفسه إذا قمعت شهواته فاستعمل منها قدر ما يحده العقل بسائر شرائطها ثم يظهر أثرها في غيره إذا قصده آخر بضيم أو ظلم فإنه يدفعه عن نفسه بالشروط المذكورة من غير إفراط ولا تفريط. وأما النجدة فهي في معنى الشجاعة أعني أنها لفظة مدح وتؤدي عن معناها إلا أنها بحسب اللغة مأخوذة من الارتفاع والرجل النجد كأنه المرتفع عن الضيم الذي علا عن مرتبة من يستذل ويمتهن كالنجد من الأرض الذي هو ضد الغور. وأما البطولة - وإن كانت في معنى الشجاعة - فإنها مختصة بما يظهر في الغير ولا تستعمل في وأخلق بالبطولة أن تكون عائدة إلى معنى البطلان لأن صاحبها - أبداً - متعرض لذلك من الفرسان لا سيما والعرب لا تميز بين الشجاعة الممدوحة وبين الزيادة فيها المذمومة بل عندها أن الإفراط هو الشجاعة. فأما ما سميناه نحن شجاعة - فهو بالإضافة إلى ما سمته بها - جبن كما فعلوا ذلك في السخاء والجود فإنهم استعملوا هذا المذهب بعينه. وأقول: إن الشجاعة ربما أدت إلى بطلان الحياة وكان الموت حينئذ خيراً جيداً ممدوحاً لما وقع بحسب الشجاعة أعني على ما حده العقل وكما ينبغي وعلى سائر الشروط لأنه لو قصر صاحبها أعني الشجاعة لكان مذموماً جباناً كما بينا وأوضحنا وكما تقدم من شرحنا معنى الموت الجيد والحياة الرديئة فيما تقدم. فأما المعونة فهي إمداد القوة بقوة أخرى من جنسها خارجة عنها. والخذلان ترك هذا الإمداد مع التمكن منه. فإذا كانت المعونة من البشر كانت نافعة مرة وضارة مرة لجهلهم بعواقب الأمور ولكن اسم المعونة اسم المدح لأن المعمول عليه بين الناس هو النية والقصد في الوقت لا عواقب الأمور. فأما إن كانت من الله - تعالى - فليست إلا نافعة غير ضارة لعلمه بالعواقب ولأن الله - تعالى - لا يفعل إلا الخير والنافع وهو متعال عن الشر منزه عنه جل ذكره وتقدس اسمه وعلا علواً كبيراً عما يقول الظالمون. وإذا تبين ما العونة وكيف تقع من البشر ومن البارى - تعالى - فقد تبين ضدها الذي يسمى الخذلان فلا معنى لإطالة الكلام فيه. فأما اللطف والمصلحة فلفظتان مختصتان بأصحاب الكلام وإن كانتا أيضاً معروفتين عند الجمهور ومعناهما عند القوم معروف. وأنت - أبقاك الله - ريان شبعان من كلامهم ومعانيهم وأغراضهم غير محتاج أن نتكلف لك إيضاح شيء منها. زادك الله وامتع بالنعمة فيك. وأما التمكين فهو تفعيل من الإمكان والإمكان في الشيء هو جواز إظهار ما في قوته إلى الفعل وطبيعته بين الواجب والممتنع. وذلك أنك إذا تصورت طبيعة الواجب كان طرفاً وبإزائه في الطرف الآخر - أعني ما هو في غاية البعد منه - طبيعة الممتنع وبينهما طبيعة الممكن. ولأجل هذا صار للممكن غرض كبير ولم يكن للواجب لا للممتنع غرض لأن بين الطرفين مسافة تحتمل الانقسام الكثير فأما الطرف فلا مسافة له والمسافة التي بين هذين الطرفين - أعنى الواجب والممتنع - إذا لحظت وسطها على الصحة فهو أحق شيء وأولاه بطبيعة الممكن. وكلما قربت هذه النقطة التي كانت وسطاً إلى أحد الطرفين كان ممكناً بشرط وتقييد فقيل: ممكن قريب من الواجب وممكن بعيد منه. وكذلك يقال في الممكن القريب من الممتنع والبعيد منه. فأما إذا كان في الوسط فهو ممكن على الإطلاق وحينئذ ليس هو بالواجب أولى منه بالممتنع لا هو بأن يظهر من قوته إلى الفعل أولى من أن يبقى بحاله في القوة. فالتمكين هو مصدر مكن تمكيناً كما تقول: كرم تكريماً وكلم تكليماً والإمكان مصدر أمكن إمكاناً كما تقول: أكرم إكراماً. والممكن مفعل منه كما تقول مكرم. وأما الاسم الذي منه اشتق هذا الفعل فلم يستعمل في اللغة ولا جاء منه ذلك لأن الشيء لا فعل له إلا الفعل المتعدي بالهمزة فإذا قلت في الشيء: هو ممكن فكأنك قلت: إن هذا الشيء الذي في القوة - ولم يستعمل له اسم وهو في التقدير وتقديره الممكن - قد أعطاك ذاته والإمكان مصدر أمكن الشيء من ذاته. فأما التمكين فهو فعل شيء آخر بك إذا جعلك من هذا الشيء بحيث تخرجه إلى الفعل بالإرادة وهو مصدر مكن وهذا التشديد يجىء في مثل هذا الوضع من اللغة إذا أريد به تكرير الفعل وتأكيده كما تقول: ضرب وضرب وشد وشدد. وقد يجيىء التمكين بمعنى آخر وهو أن يكون تفعيلاً مشتقاً من المكان كما تقول: مكنت الحجر في موضعه إذا وافيته حقه من مد المكان ليلزمه ولا يضطرب. ومنه تمكن الفارس من السرج وتمكن الإنسان من مجلسه. وتمكن الإنسان من الأمير من هذا على التشبيه والاستعارة. وبين هذا المعنى والمعنى الأول بون بعيد كما تراه. وأما الرزق فهو وصول حاجات الحي إليه بما هو حي. وههنا أشياء توصل إلى هذه الحاجات وهي عوض منها ونائبة عنها أعني ما يتعامل عليه فجعلت كأنها هي وسميت أيضاً أرزاقاً لما أدت إليها والأصل الأول قال الله تعالى: ولما كانت أسباب الوصول إلى الحاجات كثيرة: فمنها قريب ومنها بعيد ومنها طبيعي ومنها وغير طبيعي منها اتفاق ومنا غير اتفاق وغلط الناس ضروباً من الغلط: منها أنهم راموا أن يجعلوا الأسباب الكثيرة سبباً واحداً ومنها أنهم راموا في الأسباب البعيدة القرب فلما خفى عنهم ذلك ولم يجدوه حيث طلبوه - لحقتهم الحيرة وبقدر جهلهم بالسبب عرض لهم التعجب من الأمر. فأما الدولة فمن قولك دال الشيء بين القوم وتداولوه بينهم إذا اعتوروه بالمعاطاة قال الله تعالى: وهي لفظة مختصة بالأمور الدنيوية المحبوبة لا سيما الغلبة. وأسبابها أيضاً كثيرة: فمنها بعيد ومنها قريب ومنها طبيعي ومنها غير طبيعي وغير الطبيعي منقسم إلى الإرادي والإتفاقي. وكل واحد من هذه الأقسام أيضاً ينقسم وتبعد علله وتقرب وتختلط ويتركب ضروب التراكيب فإذا فقد الجمهور وجود سببه عرض لهم فيه من الحيرة والتعجب ما عرض في الرزق. فأما التوفيق والاتفاق والموافقة والوفاق فقد مر ذكرنا كل واحد منها منفرداً وفي مسائل وهذه الألفاظ الأربعة التي عددناها متقاربة المعاني وهي مشتقة من الوفق وهي من ألفاظ الإضافة لأنها لا تقع إلا بين شيئين أو بين الأشياء. ويقال هذا وفق هذا أى لفقه وطبقة وملائمه ويستعمل في كل متلائمين من جسمين وخلقين وغيرهما. وفي المثل: وافق شن طبقة وافقه فاعتنقه فقولك وافق فاعل من الوفق. وهذا الوزن يجىء في كلام العرب لما كان بين اثنين وكان كل واحد منهما وافق الآخر وهو موافق كما قيل: ضارب صاحبه فهو مضارب. والاتفاق افتعال من الوفق. وهذا الوزن يجىء فيما لم يكن فاعله خارجاً منه. كما يقال: اقترب واعتلق واضطرب والأصل في اتفق اوتفق. وكل هذا مشتق من الوفق. وهذا الوزن لا يجىء فيما لم يكن فاعله إلا الذي ذكرناه. فإذا اجتمع شيئان أو أشياء على ملاءمة بينهما بسبب إرادي مجهول وكان منهما موافقة لإرادة إنسان ما - كان اتفاقاً له ولا بد أن يكون فيه قسط من الإرادة ونصيب من القصد والاختيار فإن لم يكن للإرادة فيه نصيب وإنما وقع بسبب طبيعي مجهول وكان فيه أمر نافع لإنسان - كان بختاً له. ولما كانت الأمور بعضها يتم بأسباب طبيعية وبعضها بأسباب إرادية وبعضها يتركب فيكون تمامه بأسباب طبيعية وأسباب إرادية وكل واحد منهما يتم منه أمر واحد محبوب أو مكروه وإن اختلفت أسبابه بحسب إنسان إنسان ونحو غرض غرض - خولف بين أمسائها ليدل بها على اختلاف أسبابها. وما كان من الأمور له سبب طبيعي بعيد أو قريب إلا أنه مجهول ثم عرض أن يكون نافعاً لإنسان من غير إرادة ولا قصد - سمي بختاً. وما كان من الأمور له سبب إرادي بعيد أو قريب إلا أنه مجهول ثم عرض له أن يكون نافعاً لإنسان موافقاً لغرض له وإرادة - سمي اتفاقاً. ولا يشتق للإنسان اسم من هذين إلا بعد أن يتكرر له أمر أعني أنه إنما يسمى مبخوتاً إذا عرض له مرات كثيرة أن تحدث أفعال طبيعية لأسباب لها مجهولة فتتم بها أغراض مطلوبة محبوبة. وأيضاً فإنما يسمى موفقاً إذا عرض له مرات كثيرة أن تقع أفعال إرادية لأسباب لها مجهولة فتتم وأنا أكشف هذين المعنيين بمثالين ليضح أمرهما وينكشف. على أني رأيتك تستعفي أن تفهم معنى البخت لأنك لم تجده في كلام العرب كأنك خطرت على نفسك أن تفهم حقيقة إلا أن تكون في لفظ عربي فإن عدمت لغة العرب رغبت عن العلوم لكنا - أيدك الله - لا نترك البحث عن المعاني في أي لغة كانت وبأي عبارة حصلت فأقول: أما مثال البخت فأن يسقط حجر من مكان عال فيصيب رجلاً في عضو له تنفجر منه عروق ويخرج منه الدم فإن كان الرجل محتاجاً قبل ذلك إلى إخراج الدم صار سقوط الحجر الذي فجر العرق وأخرج الدم سبباً لصحته ومنع المرض عنه فهذا بخت جيد. فإن كان عرض للرجل أشياء كثيرة تشبه هذا فهو مبخوت. وإن كان خروج الدم غير نافع للرجل ولا كان به حاجة قبل ذلك إلى إخراجه بل تعجل بسقوط الحجر الألم وبخروج الدم سقوط القوة والوقوع في مرض كان غير مستعد له فهو بخت ردىء. وأما المثال في الاتفاق فإن يخرج إنسان من منزله بإرادة وقصد إلا أنهما كانا منه نحو التماس الحاجة فلقي في طريقه ذلك صديقاً كان يهوى لقاءه أو غريماً كان يطلبه فلا يجده فهذا اتفاق جيد فإن عرض للرجل مثال لهذا كثير فهو موفق. وإن كان لقاؤه أيضاً وافق عدوا كان يهرب منه أو غريماً كان متوارياً عنه فهو اتفاق ردىء والرجل إذا دام عليه مثل هذا غير موفق. ولما كانت أسباب الحركات الإرادية إنما تكون من خواطر وعوارض للنفس ليست بإرادة إذ لو كانت عن إرادة لوجب من ذلك وجود إرادات لا نهاية لها وهذا محال - كانت هذه الخواطر والعوارض التي هي آثار وأفعال منسوبة إلى فاعل وقد قلنا إن فاعلها غير الإنسان فهي إذن فعل غيره لا محالة فإن كانت مؤدية إلى خيرات ومنافع كانت منسوبة إلى الله - تعالى - وهو التوفيق تفعيل من الوفق وهذا التوفيق ربما فعله الله - تعالى - بالعبد من غير مسألة وربما كان بعد مسألة وتضرع إلا أن الناس كافة يرغبون إلى الله - تعالى - فيها ويسألونه إياها دائماً في كل زمان فإذا سنحت هذه العوارض والخواطر للنفس فزعت إلى حركات يتم بها وبغيرها أمر واحد مختار لإنسان ما نحو غرض جيد له - كان توفيقاً وكان الرجل موفقاً. فأما الجد فكأنه اسم شامل لهذين المعنيين جميعاً لأن الإنسان إن وفق وبخت فهو مجدود وإن انفرد أيضاً بأحدهما فهو مجدود أيضاً. وأما الحظ فهو القسم والنصيب. ولما كان لكل إنسان نصيب من السعادة وقسط من الخير مقسوم له من الفلك بحسب مولده - فأما المحدود فهو الممنوع واشتقاقه من الحد وهو المنع ويقال للبواب حداد من هذا وكأن المحدود ممنوع مما يصيب غيره من الخير. والحظى والجدى منسوبان إلى الجد والحظ كما يقال تميمى وبكرى. فأما النصر فهو المعونة إلا أنه فيما أدى إلى الغلبة والقهر وقد قلنا ما المعونة فيما سلف. وأما الولاية فاسم مشترك وتصرفه بحسب تصرف اسم المولي أعني أنه يكون من فوق ويكون من أسفل إلا أن الحقيقة فيهما أنهما حال توجب اختصاصاً وتحققاً يدعو الأعلى إلى الحنو والشفقة والأسفل إلى النصيحة والطاعة. وإذا أخذ هذا الاسم بحسب الشريعة وأنه لفظ شرعي حد بقدر ذلك المعنى المشار إليه وإن كان الأصل ما ذكرناه. فأما ملك الشيء فهو التفرد بنفاذ الحكم فيه. وهذا قد يكون بالطبيعة والشريعة وبالاصطلاح: أما بالطبيعة فملك الإنسان لأعضائه وآلاته الطبيعية وحركاته التي يصرفها على إرادته. وأما بالشريعة فمثل ملك الرق بالسبي لمن خالف أصول الشرع. وأما بالاصطلاح فمثل المفاوضات التي تقع بين المتعاملين. ونفوذ الأمر فيه على طريق عموم المصلحة بالشفقة فإذا كان بحسب الشرع والقيام بقوانينه وإنفاذ أحكامه وحمل الناس عليه طوعاً وكرهاً ورغبة ورهبة ونظراً لهم كافة بلا هوى ولا عصبية - فهو الملك الحقيقي الذي يستحق هذا الاسم ويستوجبه بحسب معناه. وإن لم يكن بحسب الشرع وشروطه التي ذكرناها فهو غالبة والرجل متغلب ولا يجب أن يسمى ملكاً ولا صناعته ملكية ولا نفوذ أمره بحسب الملك. وقد استبان من هذا الكلام حقيقة الملك والفرق بينه وبين المتغلب وإن كان شرح ذلك يضيق عن هذا المكان لكن الإشارة إليه كفاية بالغه.
وهذا من تدبير الله وهذا تدبير الله وهذا بإرادة الله وهذا بعلم الله وحكاية طويلة في إثر هذه المسألة عن شيخ هذه المسألة عن شيخ فاضل مقرظ وجوابات له؟ الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الناس ومقصدهم بهذه الحروف من المعاني فلا يمكن أن يعتذر له لكثرة وجوه مقاصدهم واختلاف آرائهم ومذاهبهم. وليس من العدل تكليفنا ذلك ولو ذهبنا نعدد آراء الناس لطال فكيف الاعتذار لهم وتأويل أقوالهم. وأنا أضمن بالجملة أن أعرفك وجه الصواب عندي في هذه المسائل وما أذهب إليه وأجتهد لك في إيضاحه على غاية الاختصار والإيماء كما شرطته في الرسالة التي صدرت بها فأقول: إن جميع ما يطلق على الله - تعالى ذكره - من هذه المعاني وما ينسب إليه من الأفعال والأسماء والصفات إنما هو على المجاز والتسمح وليس يطابق شيء من حقائق ما تتعارفه بيننا بهذه الألفاظ - شيئاً مما هناك. وأول ذلك أن لفظة من في هذه المسائل تستعمل في اللغة وبحسب ما قاله النحويون لابتداء الغاية ولفظة إلى لانتهاء الغاية والباء للاستعانة وكذلك سائر الحروف لها معان مبينة عندهم. ولست أطلق شيئاً من هذه الحقائق في الله - عز وجل - إلا مجازاً فإني لا أقول إن لفعله ابتداء ولا نهاية ولا له استعانة بشيء فنطلق عليه الباء أعني أن يقال هذا تدبير الله ولا تدبير هناك ولا حاجة به إلى هذا الفعل ولا غيره وكذلك أقول في سائر الأفعال المنسوبة إليه وكذلك أقول في الأسماء والصفات التي أطلقت ورخص فيها صاحب الشريعة وإنما أتبع فيها الأثر وامتثل باستعمالها الأمر وإلا فمن ذا الذي يطلق حقيقة الرحمن الرحيم وغيرهما من الأوصاف على الباري المتعالي عن الانفعالات وإنما الرحمة انفعالاً للنفس تصدر بحسبها أفعال محمودة بيننا وليس هناك شيء من هذه المعاني والحقائق ولكن لما كان الإنسان قدير الجهد والوسع وليس عليه ما لا يفي به ولا يطيقه - أطلق أكرم الأسماء التي هي ممدوحة شريفة بيننا على الله - تعالى - كمثل السميع العليم والجبار العزيز وأشباهها. وأنا أعتقد أن الشرع خاصة أطلق لنا هذه الأسماء والصفات ولو خلينا ورأينا لما أقدمنا على شيء منها أصلاً برخصة ولا سبب. فإذا سمعنا بشيء من هذه الأسماء والأفعال والحروف منسوبة إلى الله تعالى - نظرنا فيه: فإن كان مطلقاً في الشريعة أطلقناه ثم تأملنا مراد قائله فإن كان خيراً وحكمة وعدلاً تركناه ورأيه وإن لم يكن كذلك ولائقاً بإضافة إليه أبطلناه وزيفناه وكذبنا قائله ونزهنا بارئنا الواحد المنزه المتعالي عن هذه الأوصاف الباطلة. ثم إني وجدتك - أيدك الله - تحكي في هذه المسألة جوابات عن شيخ فاضل تثني عليه وتسكن إلى قوله وتقنع بأجوبته فرأيت أن أقنع أبا أيضاً لك بها وذلك أنك ذكرت في آخر المسألة ما هذه حكايته: طال هذا الفصل عن هذا الشيخ في معان متفرقة تجمع فوائد غريبة بألفاظ مختارة وتأليفات مستحسنة ولو أمكن أن يتلو كل ما تقدم مثل هذا لكان في ذلك للعين قرة للروح راحة ولكن الوقت مانع من المفروض الموظف فضلاً عن غيره وأنا إلى إتمام الرسالة أحوج مني إلى غيره. ولقد سمعت بعض الصوفية يقول: حالفتني حمى الربع أربعين سنة ثم أنها فارقتني فاستوحشتها. ولم أعرف لاستيحاشي معنى إلا الإلف الذي عجنت الطينة به وطويت الفطرة عليه وضبغت الروح به. الجواب: الإلف هو تكرر الصورة الواحدة على النفس أو على الطبيعة مراراً كثيرة. فأما النفس فإنما تتكرر عليها صور الإشياء إما من الحس وإما العقل. فأما ما يأتيها من الحس فإنها تخزنه في شيبه بالخزانة لها أعنى موضع الذكر وتكون الصورة كالغريبة حينئذ فإذا تكرر مرات شيء واحد وصورة واحدة زالت الغربة وحدث الأنس وصارت الصورة والقابل لها كالشيء الواحد فإذا أعادت النفس النظر في الخزانة التي ضربناها مثلاً - وجدت الصورة الثانية فعرفتها بعد أنس وهو الإلف. وهذا الإلف يحدث عن كل محسوس بالنظر وغيره من الآلات. فأما ما تأخذه من العقل فإنها تركب منه قياسات وتنتج منها صوراً تكون أيضاً غريبة ثم بعد التكرر تنطبع فيقع لها الأنس إلا أنه في هذا الموضع لا يسمى إلفا ولكن علماً وملكة ولهذا يحتاج في العلوم إلى كثرة الدرس لأنه في أول الأمر يحصل منه الشيء يسمى حالاً وهو كالرسم ثم بعد ذلك بالتكرر يصير قنية وملكة ويحدث الاتحاد الذي ذكرناه. فأما الطبيعة فلأنها أبداً مقتفية أثر النفس ومتشبهة بها إذ كانت كالظل للنفس الحادث منها فهي تجرى مجراها في الأشياء الطبيعية ولذلك إذا عود الإنسان طبعه شيئاً حدثت منه صورة كالطبيعة ولهذا قيل: العادة طبع ثان. وإذا تصحفت الأمور التي تعتاد فتصير طبيعة وجدتها كثيرة واضحة أبين وأظهر من الإلف الذي في النفس كمن يعود نفسه الفصد والبول والبراز وغيرها في أوقات بعينها وكذلك الهضم في الأكل والشرب وسائر ما تنسب أفعالها إلى الطبيعة. وبسبب ذلك نرى الطبيب كاليائس من برئه ويقال: إنه فيمن طغن في السن وأخذ بدنه في الخلوقة أصعب وفي الصبي اللين العود الرطب الطين السريع الحيلولة أقرب مراراً وأسهل برءاً. الجواب: قال أبو علي مسكوبه - رحمه الله: الصرع هو تشنج يحدث في الأعصاب ومبدأ العصب الدماغ لأنه من هناك ينبت في جميع البدن وسبب هذا التشنج بخار غليظ يكون من بلغم لزج وكيموس غليظ يسد منافذ الروح التي في بطون الدماغ ولأن البخار - وإن كان غليظاً - فهو سريع التحلل تكون الإفاقة سريعة بحسب تحلله. وهذا الانسداد ربما كان من الدماغ نفسه وربما كان باشتراك المعدة من بخار غليظ يرتفع إليه منها وهو الأكثر وربما كان باشتراك عضو آخر. والعليل يحس قبيل وقت النوبة إذا كان من عضو غير المعدة كأن شيئاً ينشأ من هناك وينجذب إلى فوق فيربط الطبيب ذلك الموضع ويلف عليه عصائب قوية ليمنع البخار من الصعود إلى الدماغ. ولما كان الصبي ضعيف الدماغ رطبه كان سريعاً إلى قبول البخارات وحرارته في النشوء معمورة بكثرة الرطوبات وليس البخار بشيء أكثر رطوبة كثيرة تضعف الحرارة عن تحليلها وإحالتها فلذلك كثرت البخارات في رأسه فحدثت منه السدد التي ذكرناها. والطبيب الماهر لا يعالج الصبي بشيء من أدوية الصرع بل يتركه ويداوي الموضع بإصلاح الغذاء فإن الطبيعة إذا قويت وجف فضول الرطوبات عن جميع البدن وذكت الحرارة - زال الصرع لنفسه لزوال السبب أعني البخار الكثير ولصلابة جوهر الدماغ وقلة قبوله الآفات التي كان سببها رطوبته وضعفه وإنما غاية الطبيب إصلاح اللبن للمرضعة بالغذاء الذي يعدله حسب. فأما الطاعن في السن فإن أمره بالضد لأن ضعف آلاته كلها يكون من قبل الانحطاط وضعف القوى والأعضاء وليس ينتظر بها أن تتزيد في القوة بل هي في كل يوم إلى النقصان والضعف فإذا قبل دماغه بخاراً غليظاً من نفسه أو من عضو آخر صار مغيضاً له وازداد في كل نوبة قبولاً. والحرارة التي هي سبب تخلخل البخارات أيضاً تضعف عن التحليل فلذلك يقع اليأس منه. ومن شأن المادة التي تنصرف إلى موضع البدن إذا عاودته مراراً أن تتسع لها المجارى وتلزمها الطبيعة بالعادة التي ذكرناها في المسألة المتقدمة. فالآلة تزداد ضعفاً والمادة تزداد انصباباً والبخار يزداد كثرة للرطوبة الغريبة التي تحدث في أبدان المستعدين لها واستحالتها بلغماً في معدتهم والحرارة تزداد ضعفاً على التحليل.
|